الرحمة المهداة د. وداد العيدوني

الرحمة المهداة د. وداد العيدوني

 

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله r الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ،

الرحمة لغة: الرقة و التعطف. وهي خلق إنساني سام من أعظم السمات المميزة للشريعة الإسلامية ،وهي منبع الفضائل و القيم.

وفي الاصطلاح عرفها الجرجاني بأنها:”إرادة إيصال الخير ”  فهي إذا :” كمال في الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى”.

والرحمة التي يتراحم بها العباد في الدنيا ما هي إلا جزء من مئة جزء من  رحمة الله على عباده لما ورد في الحديث النبوي الشريف : ” جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزء وأنزل في الأرض جزء واحداً فمن ذلك الجزء يترحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه  “.

 يقول الشيخ الغزالى: ” ولقد أراد الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه ويرثى لخطاياه، ويستميت في هدايته ويأخذ ويناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ويخضد شوكة القوى حتى يرده إنسانًا سليم الفطرة لا يضرى ولا يطغى.. فأرسل محمدًا -عليه الصلاة والسلام- وسكن في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرًا”.

ونظرا لأهمية خلق الرحمة في الإسلام ، ورد ذكرها  ومشتقاتها في القرآن الكريم ثلاثمائة وخمس عشرة مرة. و هي كما يقول محمد الغزالي: “في أفقها الأعلى وامتدادها المطلق صفة للمولى تباركت أسماؤه ، فإن رحمته شملت الوجود وعمت الملكوت ، فحيثما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيء أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة ولذلك كان من صلاة الملائكة ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلما﴾ “.

 

تتجلى أهمية صفة الرحمة في عدة أمور أبرزها :

– هي اسم من أسماء الله عز وجل وصفة من صفاته تعالى : ﴿ وَكان بالمؤمنين رحيما ﴾ (سورة الأحزاب آية 43)

– و صفة اختص الله بها الأنبياء و الرسل فقوله سبحانه لنبيّه المصطفى محمد B في سورة الأنبياء: ﴿ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين يصدق على الأنبياء الآخرين ، وإن كان النبي محمد B أشرفهم ، لكنّ كلّ واحد منهم كان مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية.

– و وصية الله تعالى للمؤمنين ﴿وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة﴾(سورة البلد آية 17) .

– وصفة أصحاب الرسول ﴿ أشدّاء على الكفار رحماء بينهم ﴾(سورة الفتح آية 29).

– و وصية النبي B قال B ” الراحمون يرحمهم الله ارحموا أهل الأرض يرحمكم  أهل السماء” وقال B: ” من لم يرحم الناس لا يرحمه الله ”  وقال :” لا تنـزع الرحمة إلا من شقى “.

 

– و دعاء الأنبياء في القرآن . فقد دعا بها مثلا آدم عليه السلام ﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾(سورة الأعراف آية 23) ونوح عليه السلام : ﴿ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين﴾(سورة هود آية 47) .

أما خاتمهم نبي الرحمة ورسولها r، فقد جسد الرحمة في أعظم تجلياتها، إلى حد أن وصفه الله تعالى بها فقال في سورة التوبة:﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وإلى حد أن اعتبره سبحانه منة منه على الخلق ورحمة مهداة منه إليهم فقال تعالى في سورة الأنبياء: “وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين “.

وهي رحمة جسدتها السيرة النبوية العطرة في جميع مظاهر الحياة. وأمر الرسول الكريم بجعلها سمة تسم كل أنشطة العبد المكلف. فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله B قال في الحديث المتفق عليه : “ يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه “.

إن من يتتبع سيرة رسول الله r يكتشف أنه كان مثالا حقيقيا للرحمة الإلهية في أفعاله وأقواله ومواقفه وأحكامه وتشريعاته بل حتى في حروبه وغزواته مع خصومه وأعدائه، بل حتى في تعامله المخلوقات غير البشرية من حيوان وحشرات وغيرها. قال تعالى: ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾(سورة آل عمران آية 159).

وعموما يجد الواقف على سيرة سيد الوجود r،و المتأمل في جزئيات حياته العامة والخاصة، حقيقية يقينية كبرى مفاذها أنه r لم تكن بعثته إلى الخلق لهداية الناس إلى السعادة الأخروية، ودلالتهم على طريق إفراد الواحد الأحد بالعبادة فقط، بل أيضا لتخليصهم من جور القوة، إلى عدل الرحمة، ومن قانون الغلبة إلى قانون الإنسانية والمحبة والتآلف، ومن مجتمع الغابة إلى مجتمع التضامن والتآزر.

ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم قول الحق تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” رحمة مطلقة من غير تقييد، لأنها رحمة مادية وروحية، دينية ودنيوية، رحمة شاملة وعامة وعالمية تسع كل البشر .

أفادت منها البشرية كلها طيلة 14 قرنا خلت، إذ أشع نورها على كل المجتمعات التي وصلتها رسالة الإسلام، من أقصى بلاد الصين إلى أقصى بلاد المغرب والأندلس، وتأثرت بها ثقافات أخرى غير مسلمة، فنالها نصيب من ذلكم السمو والرفعة في القيم والعلاقات الإنسانية، بشهادة العشرات من علماء الغرب ومفكريه مثل جان لوك، وتوماس كارلايل، و لين بول، وإدوار مونته، وولز، ،ووليام موير وغيرهم.

فها هو الإنجليزي ويليام موير  في كتابه ” تاريخ محمد“: يقول

إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه وحسن سلوكه، ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداً أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله، وخبير به من أمعن النظر في تاريخه المجيد، ذلك التاريخ الذي ترك محمداً في طليعة الرسل ومفكري العالم
ومن صفاته الجديرة بالتنويه والإجلال الرقة والإحترام اللتان كان يعامل بهما أتباعه حتى أقلهم شأنا ، فالتواضع والرأفة والإنسانية وإنكار الذات والسماحة والإخاء تغلغلت في نفسه ووثّقت به محبة كل من حوله .

 

 ويقول الكاتب الفرنسي المشهور لامارتين: “وإذا أردنا أن نبحث عن إنسان عظيم تتحقق فيه جميع صفات العظمة الإنسانية، فلن نجد أمامنا سوى محمد الكامل”. وفي هذا القول ما يوضح وصول هؤلاء المنصفين إلى الحق والإنصاف بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع كل صفات العظمة الإنسانية.وحمل رسالة الإسلام ،رسالة الإنسان ، رسالة الرحمة الإلهية فزكاه الله تعالى وأثنى عليه بقوله تعالى: ﴿ قد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم .