غزوة بدر الكبرى للدكتور محمد كنون الحسني

غزوة بدر الكبرى للدكتور محمد كنون الحسني

غزوة بدر الكبرى

لا تزال أيام هذا الشهر المبارك تطالعنا بأحفل الذكريات وتذكرنا بأروع ما حدث في تاريخ الإسلام من الحوادث الجسام، وتعيد إلى ذاكرتنا ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سبيل الدعوة إلى الله من عنت المشركين وإرهاق الجبارين، يذكرنا اليوم السابع عشر من رمضان في كل عام بمشهد عظيم من مشاهد البطولة الإسلامية التي خلدت على مر الزمن رمزا لعظمة المسلمين وقوة إيمانهم وشدة ثباتهم وعمق محبتهم لدينهم ونبيهم، إنه مشهد غزوة بدر الكبرى الذي حدث صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وهي أول معركة قاد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه جيش المسلمين تجلت فيها آيات حكمته ودستوريته وقيادته وسياسته، وآيات إخلاص الأنصار والمهاجرين في نصرة دين الله.

ومجمل ما حدث في هذه الغزوة وما سبقها مما كان سببا في وقوعها أن الله تعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وهم أحد فريقين كتابيون يومنون بما وصلهم من أخبار ديانة سابقة، ووثنيون عاكفون على عبادة ما استحسنوه من وثن أو نجم، وبعثه بالدين القويم والصراط المستقيم فشرع صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرا ثلاث سنين آمن في أثنائها برسالته من شرح الله للإسلام صدره،  ثم أمر  أن يجهر بدعوته وينذر الكفار من أهله وعشيرته، قال تعالى: “فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ” الحجر 94 فجهر صلى الله عليه وسلم بالدعوة ونادى في قومه بما أمره ربه به، فهزؤوا به وسخروا منه وبغوا عليه وعلى أصحابه الذين آمنوا معه ووقفوا في سبيل الدعوة إلى الحق، وصدوا عن صراط الله العزيز الحميد، وأمعنوا في التنكيل بالرسول وإيذائه، فقد لقي هو وأصحابه من وسائل التعذيب وضروب الإعنات مالا قبل للجبال الراسيات بحمله. ولما رءا صلى الله عليه وسلم  أن القوم لا يزدادون إلا كفرا وعنادا، وإمعانا في الأذى والنكال أذن لمن ليست له عشيرة تحميه وتدفع عنه أذى المشركين أن يهاجروا إلى أرض الحبشة فهاجر إليها ثلاثة وثمانون رجلا وسبع عشرة امرأة سوى الأطفال، فتعقبت قريش هؤلاء المهاجرين وأرسلت في إثرهم رجلين من دهاتها وحملتهم بالتحف والهدايا للنجاشي ملك الحبشة طمعا في أن يرد إليهم من هاجر إلى بلاده وأن لايقبل وفادتهم، ولكن النجاشي رد على قريش هديتها ولم يجبها إلى طلبها ، وأكرم المهاجرين واقتنع بأنهم على الحق وإليه يدعون، ولما أخفقت قريش في صد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دين الله ورأت أن الإسلام أصبح ينتشر بين القبائل بسرعة، تعاهدوا فيما بينهم على أن يكيدوا للنبي صلى الله عليه وسلم إما بحبسه والحيلولة بينه وبين الناس، وإما بقتله، وإما بإخراجه من بلده ومسقط رأسه ليتخلصوا منه ومما يدعوا إليه، فأعلمه الله بما بيتوا له وأمره بالهجرة إلى المدينة وعصمه من المشركين  أعداء الحق والدين. ولكن لم يكد يستقر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بالمدينة حتى أخذ المنافقون يغدرون بهم وينقلون إلى أهل مكة أخبارهم، وأهل مكة يسومون الخسف والعذاب من بقي من مستضعفي المسلمين الذين كانوا يقولون من هول ما يلاقون: ”  رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ” سورة النساء 75، ثم أمر الله المومنين بالقتال ووعدهم بالنصر وكتب لهم الغلبة والظفر بقوله جل علاه: ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ  الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ” الأنفال 64 ـ 66 .فحينئذ صدع صلى الله عليه وسلم بأمر ربه وبدأ يجاهد الكفار تأمينا للدعوة من كيد العدو، ثم بلغه أن عيرا لقريش أقبلت من الشام يقدمها أبو سفيان وفيها تجارة واسعة ومعها أربعون رجلا فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هذه عير لقريش فاخرجوا إليها لعل الله أن يجعلها غنيمة لكم فساروا إليها في رعاية الله وحماية رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ومعهم فرسان وسبعون بعيرا. وعلم أبو سفيان بعزم المسلمين  على التعرض له وأخذ ما معه فأرسل يستصرخ أهل مكة ليدركوا عيرهم ويمنعوا تجارتهم فتجهزوا وخرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس يقودهم أبو جهل وهم ما بين التسعمائة والألف ومعهم مائة فرس عليها مائة درع سوى دروع المشاة. ومضو وقد زين “َْ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ” الأنفال48. ولحكمة بالغة نجا أبو سفيان بما كان معه من التجارة ورأى المسلمون أنفسهم أمام جموع المشركين وقد أقبلوا بخيلائهم يحادون الله ويحاربون رسول الله وينتقمون ممن حاول التعدي على أموالهم وإزعاج رجالهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا، وكان مما قاله عمر يارسول الله إنها قريش، إنه عزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك  فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته، ثم قام المقداد ابن عمر فقال يارسول الله: امض لما أمرك الله فإنا معك لا نقول كما قال بنوا إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وقام سعد ابن معاذ فقال: والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. ففرح صلى الله عليه وسلم بقول أصحابه وقال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، وأصبح المسلمون أشد ما يكونون ثقة بنبيهم وإيمانا بنصر الله لهم، فلم ترهبهم كثرة أعدائهم ولا وفرة أسلحتهم، وكان لهم في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ملجأ لضعفهم ومبعث على تحقيق أملهم. فلما تراءا الجمعان  ووقف جند الله أمام جند الشيطان ذكر المسلمون قرآنهم  ورسولهم وتوجهوا إلى من يجيب المضطر إذا دعاه أن ينصرهم على من حارب الرسول وعاداه، ووقف الرسول في عريشه يحرض على الصبر والقتال تارة وتارة يتوجه إلى السماء باسطا يده مسلما وجهه داعيا ربه: اللهم إن قريشا قد أقبلت بخيلها وخيلائها وفخرها تجادلك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به، اللهم إنك وعدتني إحدى الطائفتين ، أي وقد فاتت إحداهما وهي العير وإنك لاتخلف الميعاد.

ودارت المعركة واشتد القتال بين الطائفتين ونزلت ملائكة الرحمان تؤازر عباده المومنين، ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله رجلين عليهما ثياب بيض، قال سعد ما رأيتهما قط قبل يوم بدر ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل يقاتلان أشد القتال. وقد كان من حكمة الله ولطفه بنبيه وأصحابه أن جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا وجعلهم بعد أن التحم الحرب في أعينهم كثيرا وجعل المشركين في أعين المسلمين قليلا لتقوى قلوبهم على القتال، قال الله تعالى: ”  وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ” الأنفال44. ودارت رحى الحرب وحمى وطيسها وما انتصف نهار يوم الجمعة السابع عشر من رمضان حتى انجلت الغمة ونزلت على المسلمين السكينة وتمت على المشركين الهزيمة ولم يبق منهم إلا القليل وفر من بقي منهم  إلى مكة خاسئين مدحورين، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: الله أكبر الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وأعز الإسلام وأهله، ثم ارتحل إلى المدينة ظافرا منصورا قرير العين بنصر الله قد خافه كل عدو له في المدينة أو فيما حولها واستشهد في هذه الغزوة من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وقد كسر الله بهذه الغزوة شوكة المشركين، ودخل الناس بعدها في دين الله أفواجا، وشاع أمر الرسول في جميع نواحي الجزيرة العربية، ويابى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون،

فسلام على تلك الأرواح الطاهرة التي سجلت بجهادها في سبيل الله أنصع صفحات المجد في تاريخ المسلمين، وسلام على تلك الدماء الزكية  من شهداء المسلمين التي روت الأرض فأنبتت فيها دوحة الحرية الباسقة الوارفة الظلال، وسلام على تلك القلوب العامرة بالإيمان التي باعت الحياة رخيصة في سبيل إعزاز كلمة الله، فعلمت البشر أن لاخير في الحياة مع الذل، وأن لاحياة إلا حياة الدين والعزة والشرف والكرامة، وسلام الله على من استنوا بسنتهم وعملوا بهديهم من المسلمين إلى يوم القيامة. فإذا احتفل المسلمون بهذه الذكرى فإنما يحتفلون بذكرى من سموا عن المطامع المادية وانتصروا بقوة عقيدتهم على قوة السلاح والعدد، وبمن أنقدوا الإنسانية من مهاوي الذل والتفرقة ورقوا بها في مدارج العز والوحدة والسلام.