التزكية (للدكتور محمد كنون الحسني)

 

التزكيــــة

 

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )، وقال تعالى :(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا  وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ،وفي صحيح مسلم كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا).

 

وفي المعجم الصغير للطبراني (أن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم :قال: ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان من عبد الله عز و جل وحده بأنه لا إله ألا هو وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم فإن الله عز و جل لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها وزكى نفسه فقال رجل وما تزكية النفس فقال أن يعلم أن الله عز و جل معه حيث كان).

 

ولقد بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه إلى صراط العزيز الحميد، وليضع عنهم أصرهم والاغلال التي كانت عليهم، وليشيد لهم مدنية سامية يتفيئون ظلالها ويرتقون بها ذروة المجد والسؤدد، فأمره سبحانه بإصلاح النفوس ،والسعي إلى تزكيتها بالإيمان والعمل الصالح،وتنقيتها من أدران الشرك والمعاصي ،والارتقاء بها في مدارج الكمال الإيماني، وسلم السمو الأخلاقي والسلوكي .

 

إِنَّ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ مُحتَاجَةٌ إِلَى تَزكِيَةٍ وَتَقْوِيمٍ؛ حتَّى تَسْـتَقِيمَ عَلَى الجَادَّةِ وَتَسْـلُكَ الطَّرِيقَ القَوِيمَ، وَبِذَلِكَ تُحِبُّ الخَيْرَ وَتُلاَزِمُ الحَقَّ، لَقَدْ خَلَقَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَعَلَهَا قَابِلَةً لِلتَّشَكُّلِ، فَتَارَةً يَسْمُو بِهَا صَاحِبُهَا حتَّى يَصِيرَ بِهَا فِي سِلْكِ الأَبْرَارِ، وَتَارَةً يَدَعُهَا صَاحِبُهَا بِلاَ تَأْدِيبٍ وَلاَ تَهْذِيبٍ وَلاَ مُسَاءَلَةٍ فَيَنْحَطُّ بِهَا إِلَى دَرَكِ الأَشْرَارِ.

 

والتزكية في اللغة تعني النماء والتطهير، ومنه قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا  ) أي تنمي أموالهم، وقوله تعالى: (وما يدريك لعله يزكى)  أي يتطهر من الشرك والمآثم. والتزكية في اصطلاح القرآن هي: التطهير والنماء ببركة الله تعالى وفضله. والآيات الواردة في الزكاة والتزكية تشير إلى:

        • أن التزكية هي فضل من الله تعالى على من يشاء.( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ)

 

 

 

 

        • أن عملية التزكية محتاجة إلى المعلم المربي، ولا تزكية بغير مرب، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، .

 

 

 

 

        • أن التزكية من قبل المؤمن ينبغي تجددها، وهذا ما يفيده مجيء التزكية فعلا مضارعا في أكثر من آية، من مثل قوله تعالى: ( ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. قال أبو حيان عن قوله تعالى:يتلوا عليكم ءاياتنا ويزكيكم ويعلمكم…:وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً)

 

 

 

إن نظرة خاطفة متعمقة لحال المسلمين اليوم يمكن من خلالها إدراك مدى الحاجة العظيمة والماسَّة إلى إعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء. وذلك لعدة أسباب ومنها :

 

أولاً: كثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن -لا ريب- إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد -بالطبع- لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.

 

ثانيًا: لكثرة المذاهب والاتجاهات المتطرفة أو المنحلة والتي تدعوا إما إلى التشدد والتطرف وإراقة الدماء، أو إلى الانحلال وتفشي الرذيلة والابتعاد عن تعالم الدين وأسسه.

 

ثالثًا: لأن المسؤولية ذاتية، ولأن التبعة فردية والإنسان يحاسب عن نفسه لا عن غيره فلابد من جواب واستعداد (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نفْسِهَا)

 

رابعًا: غياب الأخلاق وابتعاد الناس عن القيم العليا التي جاء بها ديننا ونبينا عليه السلام. ونجد هذا حتى في صفوف المسلمين والمتعبدين فمنهم من يقيم أمور دينه ويكذب ويغش ويخون الأمانة …

 

خامسًا: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين.ولا تقوم تزكية النفس إلا على أمرين رئيسين هما: التحلية، والتخلية.

 

فالتخلية: يقصد بها تطهير النفس من أمراضها وأخلاقها الرذيلة.

 

وأما التحلية: فهي ملؤها بالأخلاق الفاضلة وإحلالها محل الأخلاق الرذيلة بعد أن خليت منها.

 

وللوصول إلى تزكية النفس لابد من:

        1. التوحيد الخالص لله تبارك وتعالى .

 

 

 

 

        1. فعل الطاعات وترك المحرمات والصبر على ذلك كله: ففي الطاعات نور القلب وانشراح الصدر وهمة الجوارح وفي المحرم ظلمة القلب وضيق الصدر وكسل الجوارح وعجزها..

 

 

 

 

        1. طلب العلم الشرعي على يد أهله العارفين بعيوب النفس وتزكيتها وفق نهج الأنبياء يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “وتزكيةُ النفوس أصعبُ من علاج الأبدان وأشدَّ، فمن زكَّى نفسه بالرياضةِ والمجاهدة والخلوةِ التي لم يجيءَ بها الرسل، فهو كالمريضِ الذي يعالجُ نفسَه برأيِه، فالرسلُ أطباءُ القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم والتسليم لهم”.

 

 

 

 

        1. محاسبة النفس ومجاهدتها للتغلب على الهوى والشيطان والدنيا؛ ولا يكونُ الرجلُ من المتقين حتى يحاسبَ نفسَه أشدَّ من محاسبةِ شريكهِ، حتى يعلمَ من أين مطعمُه، ومن أين ملبسُه، ومن أين مشربُه أمِنْ حلالٍ ذلك أم من حرام.

 

 

 

 

        1. الصحبة النافعة التي تعين على تربية النفس وتزكيتها والبعد عن كل ما يضرها ويهلكها .

 

 

 

 

        1. التوبة، فهي أول مقامات منازل العبودية عند السالكين، وبها يذوق الإنسان حلاوة الانتقال من التخلية إلى التحلية،

 

 

 

 

        1. لزوم الاستغفار والذكر عموماً، لقول الله عز وجل: ” وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ”

 

 

 

 

        1. الصلاة: وهي من أعظم ما تزكو به النفوس ولذلك قرن الله تعالى بينها وبين التزكية في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ . وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم تطهير الصلاة للنفوس بتطهير الماء للأبدان ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:” أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَىْءٌ “. قَالُوا لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَىْءٌ.قَالَ ” فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا “.

 

 

 

 

        1. لصدقة: قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ قال المفسرون «وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها”

 

 

 

إِنَّ تَزكِيَةَ النَّفْسِ تَدفَعُ عَنِ الإِنْسَانَ القَلَقَ وَالضَّيقَ، وَتُنِيرُ لَهُ الطَّرِيقَ؛ فَيَعِيشُ فِي هُدُوءٍ وَسَكِينَةٍ، وَرَاحَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، إِنَّ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ حِينَ يُعَوِّدُها صَاحِبُهَا الأَخْلاَقَ الحَمِيدَةَ وَالصِّفَاتِ الرَّشِيدَةَ، وَالأَفْعَالَ الحَسَنَةَ وَالأَقْوَالَ السَّدِيدَةَ؛ يُهَيِّئُ اللهُ لَهُ بِهَا حَيَاةً طَيِّبَةً سَعِيدَة
ومن ثمار تزكية النفس:

        1. الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة؛ “فلا يصلح لِمُلك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهراً بطول التزكية والتطهير قال الله تعالى:
          ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ ، قال الداراني: “من صفى صفي له، ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله.

 

 

 

 

        1. راحة البال وسكينة القلب وطمأنينته وانشراح الصدر وسعته، قال تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ)

 

 

 

 

        1. الثبات على الدين والطاعة، قال تعالى : ﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ﴾ فكلما قويت النفس وتهيأت بالذكر والاستغفار والتوبة والإنابة كلما كانت أقدر بإذن الله على تجاوز العقبات والتغلب على الصعوبات فتثبت ولا تتزحزح.